مركزية القضية في الوجدان المصري تمنح السيسي غطاء سياسيا.
خروج أعداد كبيرة من المتظاهرين وفي مدن مختلفة مهما كان الغرض منه يثير مخاوف السلطات ويكسر واحدة من المحرمات التي سعت القاهرة إلى تكريسها السنوات الماضية. فهل ستفيد هذه المظاهرات المعلبة صورة السيسي أم ستحيي آمال المعارضة في تحريك الشارع؟
أثارت مظاهرات واسعة جرت في القاهرة ومدن مصرية دعما للقضية الفلسطينية وتنديدا بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الجمعة تساؤلات وتوقعات وتخمينات عدة، فهي أول مرة تخرج فيها مظاهرات متفرقة منذ سنوات، وهو ما أوجد خشية من انحرافها عن أهدافها السياسية المعلنة، وانتقالها من الانتصار للقضية الفلسطينية إلى التعبير عن غضب من حدة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في مصر.
وأثبتت مظاهرات الجمعة، خاصة تلك التي وصلت إلى ميدان التحرير الشهير في وسط القاهرة الذي كان مقرا لمظاهرات عارمة جرت بين عامي 2011 و2013، أن عملية الانحراف بها أو تعديل مساراتها واردة، فغالبية المظاهرات التي تمت في ميادين أخرى كانت منضبطة وملتزمة وفي الحدود المُرضية للنظام المصري.
بينما مظاهرة التحرير، ومعها مظاهرة مسجد مصطفى محمود في حي المهندسين بالجيزة، بدت كلاهما مستقلة، أو بمعنى أدق أكثر حدة وشعبوية في خطابهما الرافض للعدوان الإسرائيلي وتبنتا شعارات راديكالية في دعم القضية الفلسطينية وحدها بلا تسخير سياسي محلي لها، لكن محصلته تصب في الموقف الرسمي المصري.
رفعت المظاهرات الأخرى، أو المعلّبة كما يسميها معارضون في القاهرة، خطابا يرمي إلى تفويض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي باتخاذ كافة الإجراءات للدفاع عن الأمن القومي للبلاد، وذات صبغة سياسية دعائية بشأن ما عرف بالتفويض الشعبي للسيسي، في حين أخذت مظاهرتا التحرير ومحمود صبغة عامة في تأييد الدولة المصرية وليس شخصا محددا، مع شكل حماسي ساخن في التمسك بثوابت مفصلية في دعم القضية الفلسطينية من دون استدعاء لمشاكل داخلية تقليدية.
وحفلت بعض المظاهرات التي خرجت الجمعة في مدينتي القاهرة والإسكندرية تحديدا بمفارقات مختلفة، صبت تركيزها على ما يحدث في غزة، ولم يُثر ما مثلته مظاهرة ميدان التحرير التي لم يكن مخططا لها مخاوف كبيرة لدى الحكومة المصرية، لأنها بقيت ملتزمة بالخط العام في نصرة الشعب الفلسطيني، ما يلبي إشارة السيسي من أن المصريين يمكن خروجهم بالملايين لدعم رفض توطين الفلسطينيين في سيناء.
أعادت هذه المظاهرات الحيوية في الجسم المصري، إذ امتدت إلى جامعات ونقابات مهنية كان ممنوعا عليها التظاهر أو الالتفاف حول أيّ قضية خاصة بها أو لها علاقة بالتطورات السياسية في البلاد، بالتالي فخروج أعداد كبيرة مهما كان الغرض منه كسرَ واحدة من المحرمات في الشارع سعت القاهرة إلى تكريسها السنوات الماضية لأسباب تتعلق بحسابات السلطة، انعكست على الحراك السياسي العام وجعلته مقيّدا.
وعندما فتحت الحكومة المصرية الباب لخروج مظاهرات كانت تعلم أنها لن تستطيع ضبط بوصلتها تماما أو تقييدها بالصورة التي تمكنها من التحكم بكل مفاتيحها، في ظل زخم داخل بعض القوى السياسية أوجدته الاستعدادات الراهنة لانتخابات الرئاسة المصرية في ديسمبر المقبل، ولم تساورها شكوك في إمكانية القفز عليها من قبل أحزاب وشخصيات معارضة، لكن محورية القضية الفلسطينية في الوجدان المصري العام هي التي سوف تحول دون الانحراف بها.
وتأكدت القاهرة من صدق هذا التقدير في مظاهرة ميدان التحرير التي ضمت المئات من الشباب الغاضب، وعلى الرغم مما حوته من شعارات بها مزايدات سياسية على الشعارات التقليدية التي رفعتها مظاهرات في ميادين أخرى، إلا أنها لم تُقحم الأزمات الداخلية في مصر، وتجنبت الدخول في عملية تصفية حسابات مؤجلة مع السلطة ردا على بعض ممارساتها بحق المعارضة.
واحتفاء بعض قوى المعارضة بما يُعد خروجا عن ثوابت الأجهزة الرسمية التي رعت المظاهرات بشكل عام، جاء مرده من عدم التقيد بالزمان والمكان المحددين والخطاب الذي تمت دحرجته للشارع من جانب الحكومة، وهو ما اعتبره معارضون دليلا على عدم استبعاد تبني مواقف مناهضة بعد أن يهدأ الفوران بسبب حرب غزة.
ويقطع الظرف السياسي العام في مصر والنزاعات التي تمر بها المنطقة الطريق على هذا التوجه، فلا أحد يريد التشويش على ما يجري لفلسطينيي غزة في هذه المرحلة، باستثناء جماعة الإخوان التي لم تنس في هذا الخضم عداءها للنظام المصري.
وتعتقد الجماعة أن مجرد فتح المجال للمظاهرات في الشارع يمكّنها من أن تمتطيها أو تسخرّها لأهدافها الخفية، أو توظّفها لأجل العودة إلى المشهد العام على أسنّة رماح القضية الفلسطينية، وهي أكبر خطيئة تواجهها السلطة المصرية والقوى السياسية المؤيدة والمعارضة لها، لأنها سوف تفقد الجميع بريقا جديدا حظي به الخطاب العام.
فلا خوف من مظاهرات غزة، لأن الكتلة الكبيرة من المصريين قد تختلف في قضايا عدة وتتباين رؤاها في تفاصيلها وتشتد بينها المناوشات، إلا أنها تلتقي عند عتبات القضية الفلسطينية، وكل المزايدات التي يمكن أن تظهر في الشارع وتبدو متشددة أو على يمين الموقف المصري يمكن استثمارها في دعم القاهرة إذا شعرت أن هناك ضغوطا دولية تمارس ضدها لتبني خطاب يميل إلى صالح إسرائيل.
وأجاد الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك الاستثمار في مظاهرات المعارضة المصرية وقت أن كانت عملية التسوية السياسية بين إسرائيل والفلسطينيين في أوجها منتصف التسعينات من القرن الماضي، فكانت الشوارع والنقابات تعج بها.
ومع أن نظام مبارك ظهر متأففا منها، غير أنها سدت جانبا حيويا من الاحتياجات السياسية كلما اشتدت الضغوط الأميركية عليه لتليين موقفه أو حثه بقوة على الضغط على السلطة الفلسطينية وإقناعها بما يتم تداوله من أفكار منحازة إلى إسرائيل.
الحكومة المصرية عندما فتحت الباب لخروج مظاهرات كانت تعلم أنها لن تستطيع ضبط بوصلتها تماما أو تقييدها بالصورة
كانت مشكلة نظام مبارك آنذاك أقل حدة مما يواجهه نظام السيسي الآن، حتى لو تحولت مظاهرات دعم القضية الفلسطينية إلى مظاهرات معارضة لسياسات الأول، بينما حاليا يصعب القبول بهذا الانحراف، فهناك متغيرات حدثت في المنطقة لا تجعل شريحة كبيرة من المواطنين تدعم توجهات المعارضة إذا أرادت الانحراف بأهدافها من فلسطين إلى الداخل، وثمة شعور مصري بأهمية الحفاظ على الأمن والاستقرار الذي تحقق وعدم تعريضه لمخاطرة قد تنفذ منها جماعة الإخوان إلى الشارع، وتحول مصير البلاد إلى آخر شبيه بما حدث من صراعات في دول مجاورة.
كما أن قبضة الأمن المصري قوية وتملك الأجهزة المختلفة قدرة عالية في التعامل مع أيّ مطبات تقع في الشارع، تمكنه من عدم السماح بانفلات المظاهرات أو خروجها عن الأطر المرسومة لها مسبقا، والتي وصلت إلى حد التفاهم مع قوى معارضة حول الأماكن المسموح لهم التمركز بها في مشهدية العدوان الراهن على غزة.
وتوفر هذه المعطيات بيئة جيدة لاطمئنان النظام الحاكم للمعارضة، والتي يدرك قادتها حساسية المرحلة، وأن مصر هدف كبير للكثير مما تقوم به إسرائيل في القطاع، وأيّ توتر في الداخل يربك قيادتها في التعاطي مع مخططات أخذت شكلا فاضحا في مسألة توطين فلسطينيي غزة في سيناء، فهناك معركة سياسية وإنسانية، وربما أمنية، تخوضها مصر لا تسمح بأيّ تشويش عليها من الداخل.
المصدر : العرب